كتاب الثريامدونات الثريا

معطياتُ الأمسِ ليستْ معطياتِ اليومِ

أحمد أبو العمرين

التشبيهاتُ مع النماذجِ التاريخيةِ في الزهدِ والتقشفِ والانقطاعِ عن الدنيا؛ قد توقِعُنا في أزمةِ التناقضِ بينَ الفكرةِ والتطبيقِ..

وكمِثالٍ: فبيتُ النبوّةِ كان لا يُوقَدُ فيه نارٌ لعدّةِ أشهر، ويعيشُ على التمرِ والماءِ، وكان أفقرُ الناسِ ومنهم الصحابةُ لديهم خدمٌ وعبيدٌ.

فمَن يدعو للتشبُّهِ بحالِ المصطفّى في ذلك؛ فهل يستطيعُ تفسيرَ وجودِ الخدمِ لديهِ؟؟ وهل هذا ممكنُ التطبيقِ في عصرِنا الحالي؟؟

الجوابُ _ببساطةٍ_ أنّ النظامَ الاجتماعيَّ في ذلك الوقتِ كان يتكونُ من خدمٍ وعبيدٍ؛ هم جزءٌ من الأُسرةِ دونَ أنْ يكونَ لذلك ارتباطٌ بالوضعِ الاقتصادي، لاختلافِ معطياتِ المعيشةِ البسيطةِ في ذلك الحينِ عن معطياتِها الأصعبِ اليومَ.

وإنّ اختلافَ البيئاتِ ومعطياتِها موجودٌ حتى في العصرِ الواحدِ؛ ففي دولِ الخليجِ مثلاً.. أقلُّ العائلاتِ دخْلاً؛ لها سيارةٌ وخادمٌ أو خادمةٌ، ولا يُعدُّ ذلك (تبذيراً أو أرستقراطية) كما يظنُّ البعضُ؛ لأنّ مقاييسَ المجتمعِ الخليجيّ تختلفُ عن مقاييسِ مجتمعِنا؛ الذي لا يَألفُ مِثلَ هذه المظاهر.

وفي المجتمعِ المصريّ الريفيّ.. أقلُّ الناسِ دخْلاً _ورغمَ فقرِه_ يكونُ له قطعةُ أرضٍ كبيرةٍ أو صغيرةٍ، وبالمقارنةِ بأهلِ غزةَ؛ سنجدُ أنّ أفقرَ الناسِ هنا ممن لا يملكُ أرضاً ولا بيتاً؛ هو مليونيرٌ بالمقارنةِ مع هذا الغلبانِ الذي يملكُ أراضٍ في الريفِ المصري!!

الفارقُ يا سادة هو اختلافُ الزمنِ والبيئةِ ومعطياتِها.

إنّ الإصرارَ على إيقافِ الزمنِ والتطورِ الحضاريّ عندَ نقطةٍ زمنيةٍ معينةِ؛ هو العُقدةُ التي تسبّبُ حالةَ التناقضِ التي يراها البعضُ بينَ النماذجِ التاريخيةِ في الكتبِ، وبينَ النماذجِ التطبيقيةِ لمشايخِ اليومِ ودُعاةِ الإسلام.

إنّ المناداةَ بتطبيقِ نماذجِ الزهدِ التاريخيةِ حرفياً، واتّهامَ مَن يخالفُها بالتقصيرِ والبُعدِ عن روحِ الإسلامِ؛ هو فهمٌ سطحيٌّ غيرُ واقعيٍّ  للنصوصِ والقصصِ والنماذجِ، مع أهميةِ التطرّقِ إلى هذه النماذجِ من تاريخِنا وتراثِنا في إطارِ التنظيرِ والدعوةِ، دونَ أنْ يكونَ المقصودُ التطبيقَ الحرفيَّ الذي هو مستحيلٌ.

وستجدُ في واقعِنا وعصرِنا من يعيشُ قِيَمَ التقشُفِ والزهدِ والانقطاعِ عن الدنيا، والتعلقِ بالآخِرةِ؛ وهو في ذاتِ الوقتِ يركبُ السياراتِ، ويحملُ الجوالاتِ، ويمارسُ النشاطَ الاقتصاديَّ العصري؛ فهذه هي معطياتُ عصرِنا وبيئتِنا؛ فمعطياتُ الأمسِ ليست هي معطياتِ اليومِ، والتي حتماً لن تكونَ مُعطياتِ الغدِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى