أُسَرٌ غزيةٌ تتأقلمُ مع الأزماتِ الاقتصاديةِ والمعيشيةِ؛ وبأقلِّ الإمكاناتِ

بينَ ترتيبِ الأولوياتِ وتقليصِ الكمالياتِ
أُسَرٌ غزيةٌ تتأقلمُ مع الأزماتِ الاقتصاديةِ والمعيشيةِ؛ وبأقلِّ الإمكاناتِ
تعيشُ الأُسَرُ الغزيةُ أوضاعاً وأزماتٍ صعبةً للغايةِ؛ أثّرتْ بشكلٍ سلبيّ على كافةِ الأصعدةِ الحياتيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والنفسيةِ؛ وبالتالي أصبح الكثيرُ يقفونَ أمامَ مُعضلةٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ؛ فأنصافُ الرواتبِ لا تكفي للحدِّ الأدنى من متطلباتِ الحياةِ، ورسومِ الروضاتِ والحضاناتِ والجامعاتِ، والمواصلاتِ، وفواتيرُ متعدّدةٌ، والتزاماتٌ متنوعةٌ… وغيرُها الكثير. في ظِلِّ تلكَ الأوضاعِ كيف تستطيعُ الأسرةُ الغزيةُ أنْ تتعايشَ مع الأزماتِ والأوضاعِ الصعبةِ؟ وما هو البديلُ للخروجِ منها؟ .
فيما يشكو “عبد الله محمود” أنه لم يتبقَ من راتبِه ما يكفي للمتطلّباتِ الأساسيةِ؛ فلدَيه التزاماتٌ ورسومَ روضةٍ، ومصاريفُ مَدرسيةٌ، فأطفالُه صغارٌ لا يَكُفّونَ عن الطلباتِ؛ فيلجأ للديونِ والاستلافِ من المحلاتِ والأصدقاءِ فيقولُ :”زوجتي لا تكُفُّ عن الطلباتِ من رسومِ الروضةِ، ومواصلاتِ أبنائي للمدرسةِ، ومستلزماتٍ أخرى… فمن كثرةِ ما تطلبُ أتركُ لها البيتَ؛ وأبقَى لوقتٍ متأخّرٍ خارجَه، فحياتي انقلبتْ رأساً على عَقب؛ وأصبحتُ لا أتحمّلْ سماعَ صوتِ أبنائي وهم يطلبونَ وأنا أشعرُ بالحرَجِ… ومن كثرةِ الالتزاماتِ لم أُرسلْ طفلي إلى الروضةِ؛ ولم أدفعْ مستحقاتِ الرسومِ .
التأقلُمُ مع الواقعِ :
في حين استطاعتْ الموظفةُ “عُلا أبو عيوش” التأقلُمَ على الوضعِ الاقتصادي؛ فلا مَفرَّ من الخنوعِ والاستسلامِ؛ فهي أعادتْ ترتيبَ أمورِها؛ وقلّصتْ الكثيرَ من الالتزاماتِ، وحوّلتْ حياتَها ضِمنَ الموجودِ، فتقول:” قمتُ بتوزيعِ ما تبقّى من الراتبِ بعدَ الخصمِ على الضرورياتِ من مأكلٍ ومشربٍ واحتياجاتٍ لا غِنَى عنها، تكفيني طوالَ الشهرِ ، وأصبحتُ أذهبُ إلى العملِ مَشياً لأوفّرَ المواصلاتِ، واتفقتُ مع صاحبةِ الحضانةِ أنْ أدفعَ لها نصفَ الرسومِ إلى أنْ تنفرجَ الأزمةُ “.
توضّحُ:” منذُ بدايةِ الأزمةِ الماليةِ للموظفينَ؛ انتابَنا اليأسُ وخاصةً مَن عليهم التزاماتٌ ماليةٌ خارجيةٌ ومرابحاتٌ؛ فكان الأمرُ لا يُحتملُ؛ وتطوّرَ ليمتدَّ لشهورٍ حتى أصبحِ واقعاً مفروضاً، فالجديرُ بنا أنْ نجتازَ الأزمةَ كُلٌّ بقُدرتِه، وكفاءتِه، لا أنْ نخلقَ منها أزماتٍ تعملُ على شلَلِ الحياةِ بالكاملِ.
“السعادة” كان لها وقفتُها مع الأخصائي الاجتماعي أنور محمود أحمد متحدّثاً :” برغمِ الظروفِ الصعبةِ التي نعيشُها، والأزماتِ المتتاليةِ؛ يجبُ علينا عدمُ الاستسلامِ واليأسِ والانكسارِ، فالتعاملُ بشكلٍ سلبيّ لن يحلَّ المشكلةَ؛ بل يزيدَها تعقيداً، وعلينا أنْ نتفهمَ ذلك و نتكيّفَ معه، فالأزمةُ بالتأكيدِ أثّرتْ على الأُسرِ كافةً؛ من حيثُ عدمِ قدرةِ ربِّ الأسرةِ على توفيرِ الاحتياجاتِ الخاصةِ بأبنائهِ؛ فقدْ اعتادَ الناسُ سابقاً نمطاً مُعيناً من الحياةِ غيرَ متوفّرٍ حالياً بسببِ الوضعِ الاقتصادي؛ فنلاحظُ ازديادَ التوتُرِ و العصبيةِ، و عدمِ القدرةِ على تحمّلِ الآخَرينَ؛ خصوصاً الزوجةَ و الأبناءَ و ذلك ينطبقُ على الزوجةِ أو الأمِّ و الأبناءِ في علاقتِهم مع بعض.
يوضّحُ :” هناك متطلباتٌ أساسيةٌ لا يمكنُ التخلّي عنها؛ وهنا يَحدثُ الصراعُ بينَ عدمِ القدرةِ على توفيرِ هذه المتطلباتِ؛ و بينَ التخلّي عنها، وفي مِثلِ تلكَ المواقفِ يجبُ التصرّفُ بحكمةٍ وتدَبُّرٍ، وتحديدُ الأولوياتِ، و توفيرُ الحدِّ الأدنَى لبعضِ المتطلباتِ، و التخلّي عن البعضِ الآخَرِ، و الاقتناعُ بأنّ هذا الوضعَ طارئٌ و خارجٌ عن الإرادةِ.
ويشيرُ إلى نقطةٍ غايةٍ في الأهميةِ؛ وهي مشاركةُ الأبناءِ في الأزمةِ الاقتصاديةِ التي تمرُّ بها الأسرةُ؛ وإطلاعُهم عليها بالكاملِ، ومشاركتُهم في وضعِ الحلولِ، و توعيتُهم بالأسبابِ و البدائلِ المتوَفرةِ للحلِّ، فلا يجبُ استثناءُ الأبناءِ بحُجةِ أنهم ما زالوا صغاراً وغيرَ واعينَ؛ ما يفاقمُ من حجمِ المشكلةِ؛ فهم يريدونَ أنْ يتوفّرَ لهم كلُّ ما يحتاجونَ؛ وهذا يدفعُ الأهلَ إلى مشكلةٍ أخرى؛ وهي تراكمُ الديونِ كي يحافظوا على مستوى أبنائهم! وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ يجبُ الابتعادُ عنها؛ حتى لا تزيدَ عليهم الأعباءُ .
تُخبرُنا المستشارةُ الأسريةُ “ليلى أبو عيشة” أنّنا في هذه الأوضاعِ نحتاجُ إلي عُنصرينِ مُهمّينِ: (التأقلُم والتكيّف) مع الموجودِ، وتقويةِ الوازعِ الدِّيني، فلا طَمأنينةَ إلّا بالرجوعِ إلى اللهِ _تعالى_ والذِّكرِ والدعاءِ، والاستشعارِ بالنّعمِ الموجودةِ، وعدمِ تهويلِ الأمرِ وتكبيرِه؛ حتى لا تزيدَ الأوضاعُ سُوءاً؛ ونَدخُلَ في وضعٍ نفسيٍّ صعبٍ يقودُنا إلى التذمُرِ الدائمِ والكسلِ .
تقول :”ما يميّزُ مجتمعَنا الفلسطيني تماسُّكه وتكافلُه وإحساسُه بالغَيرِ؛ فالنسيجُ المجتمعي قويٌّ مترابطٌ؛ وهناكَ الكثيرُ من النماذجِ الرائعةِ التي جسّدَها المجتمعُ الفلسطينيّ؛ فنجدُ الأهلَ يسألونَ عن ابنتِهم التي لا يتقاضَى زوجُها راتبَه؛ يتفقَّدوها بما يَلزمُها من أكلٍ واحتياجاتٍ، ونجدُ الأُختَ التي يعملُ زوجَها في مهنةٍ أخرى؛ تُعينَ أختَها التي تَعسَّرَ وضعُها في ظِلِّ الأزمةِ، والجارُ يستعينُ بجارِه فيُلَبّي احتياجاتِه.
وتَعرضُ “أبو عيشة” للأمِّ الفلسطينيةِ بدائلَ حتى تجتازَ الأزمةَ، فتقولُ :”عندما تجلسُ الأمُّ مع أبنائها وتضعُهم في صورةِ الوضعِ الماديّ؛ وأنها فترةٌ طارئةٌ سيَتِمُ التغلّبُ عليها؛ ولكنْ لا بدَّ من مشاركتِهم في الحلولِ؛ كأنْ يذهبوا إلى الجامعاتِ مَشياً على الأقدامِ؛ كنوعٍ من توفيرِ المواصلاتِ، وأنّ عليهم التوجُّه إلى الجهاتِ المَعنيةِ في الجامعةِ؛ كي يشرحوا لهم الضائقةَ الماليةَ التي يمُرُّونَ بها _كنوعٍ من المساعدةِ_ أو إمهالهِم في دفعِ رسومِ الجامعةِ، وبدَلاً من المصروفِ اليومي؛ الإفطارُ في البيتِ بجوٍّ عائليّ كنوعٍ من التوفيرِ.
وفي ذاتِ السياقِ تنتقلُ إلى نقطةٍ أُخرى؛ تتمثّلُ في آلياتٍ ومفاهيمَ يجبُ علينا كأهالي إتباعُها مع أبنائنا؛ فليس كلُّ مطلوبٍ يُمكِنُ تحقيقُه، وليس كلُّ ما كان هناكَ رغبةٌ لاقتنائهِ من اللوازمِ الضروريةِ؛ يُمكِنُ أنْ نَحصلَ عليه، ويجبُ _بالأساس_ أنْ نُعلِّمَهم سُلّمَ الأولوياتِ؛ مع الأخذِ بالحسبانِ أنه في بعضِ الأحيانِ يُمكِنُ أنْ يحصلَ الطفلُ على شيءٍ من الكمالياتِ عن طريقِ التعزيزِ، كي يستشعرَ قِيمتَه أكثرَ.
وتوضّحُ أنّ مَن تعوّدَ على نمطِ حياةٍ مُعيّنةٍ_ وتَغيّرُ بسببِ الأزماتِ_ فيجبُ أنْ يُغيّرَ نمطَ الحياةِ بشكلٍ يتلاءمُ مع المطلوبِ؛ فمثلاً: يُمكنُ استبدالُ المستهلَكاتِ والأغراضِ من الماركاتِ ذاتِ السعرِ المرتفعِ إلى أشياءٍ بديلةٍ، وتقليصُ الزياراتِ والفُسَحِ، ومحاولةُ الجلوسِ بأجواءٍ عائليةٍ؛ لعلّها فرصةٌ لإعادةِ أجواءِ الدفءِ والحُبِّ .
وتوَجِّهُ حديثَها لكُل زوجةٍ لتُساندَ زوجَها؛ ولا تطلبْ منه فوقَ طاقتِه؛ فتُشعِرْهُ بعَجزِه وقِلّةِ حيلتِه؛ وأنْ تقفَ بجانبِه؛ وتُخفّفَ عنه قدْرَ المستطاعِ؛ وتُقلّلَ من الشكوَى والإلحاحِ، وفي المقابلِ على الزوجِ الابتعادُ عن التذَمُرِ، والعصبيةِ، وشحنِ البيتِ بطاقاتٍ سلبيةٍ، وخَلْقِ جوٍّ من المشاحناتِ التي تؤثّرُ على الجوِّ العائليّ؛ بل عليه أنْ يكونَ خيرَ سنَدٍ لزوجتِه وأبنائهِ؛ ويُحاولَ أنْ يجدَ البديلَ؛ كأنْ يبحثَ عن أيِّ عملٍ ولو كان بسيطاً؛ أو أيِّ مَصدرِ رزقٍ حَسبَ قدراتِه وإمكاناتِه؛ فالعملُ ليس عيباً ما دام حلالاً وشريفاً؛ بدَلاً من أنْ يمدَّ يدَه للغيرِ ويُراكِمَ عليه الديونَ.