مرحلةُ التبلُدِ

رشا فرحات
في أوروبا وفي القرونِ الوسطى؛ حينما كان يطبَّقُ حكمُ الإعدامِ على أحدِهم؛ كان يقومُ بتنفيذِ الحكمِ اثنا عشرَ جندياً يسدِّدونَ بنادقَهم تُجاهَ المجرمِ في ذاتِ اللحظةِ.. والمُلفتُ للنظرِ أنّ بندقيةً واحدةً من هذه البنادقِ تكونُ فارغةً من الرصاصةِ الوحيدةِ الموجودةِ في بقيةِ البنادقِ، حتى يتسَّنى لكُل جنديّ الاعتقادُ بأنه لم يكنْ صاحبَ الرصاصةِ التي قتلتْ المجرمَ !
طبعاً هذه السطورُ المليئةُ بالمشاعرِ لا تنطبقُ على واقعِنا الحالي؛ لأنني أشعرُ أنّ هناك ” كلاحة” في المشاعرِ، يعني ” بلادة” من كثرةِ المَشاهدِ الدمويةِ التي تمرُّ بنا، أصبحَ القتلُ والموتُ والدمارُ شيئاً اعتيادياً؛ ولم يَعدْ ذلك المشهدُ مؤَثراً بالشكلِ الذي وصفتْهُ السطورُ السابقة!
والتبلُّدُ للعلمِ هو علامةٌ خطيرةٌ لعددٍ من الأمراضِ النفسيةِ؛ منها التوَحُدُ، والاكتئابُ، والانفصامُ، وتلَفٌ في الدماغِ، يا لَهوي، هي وصلت لهيك؟!! نعم وصلتْ، ومن الطبيعي أنْ تَصلَ.
شوف عاد المعلومة الجديدة خالص، إنّ التبلُّدَ الذي يؤدي إلى العُقدِ النفسيةِ يُمكنُ أنْ يصيبَ أولئك الذين يحاولونَ أنْ يقدِّموا شيئاً من التغيُّرِ لمجتمعاتِهم؛ ولكنهم لم يجِدوا نتيجةً إيجابيةً كما كانوا يتوقعونَ، يُقدِّمونَ ولا يَجِدونَ المقابلَ، يتعلمونَ ولا يجدونَ الفرصةَ، يقترحونَ الأفكارَ ولا يجِدونَ المُنفِذَ، أولئك المظلومونَ بحقٍّ في مجتمعٍ يزدادُ هبوطاً نحوَ القاعِ! وأحياناً تُصيبُني تلك الحالةُ من التبلّدِ أنا التي أكتبُ في قضايا التغيّرِ منذُ سِتِّ سنواتٍ؛ ولم أجدْ نتيجةً كتلكَ التي أتمناها! وأحياناً أشعرُ بتفاهتي وأنا أُقنعُ أحدَ المصابينَ بحالةِ “تبلُّدٍ” بشتَّى الوسائلِ، بأنَّ هناك أملاً، ما زالَ هناك أملٌ !
أجل، أخافُ من مرحلةِ التبلّدِ، لا أريدُ أنْ تُطلقَ رصاصةٌ أمامي؛ وأسيرُ غيرَ مكترثةٍ بكُل تَبلُّد، لا أريدُ أنْ أرى مشهدَ تعنيفٍ وقتلٍ؛ ثُم أُكملَ طريقي بكلِّ تَبلُّد، لا أريدُ أنْ يصلَ أبنائي لمرحلةِ التبلُّدِ، أريدُ لتلك المشاعرِ الجميلةِ أنْ تبقَى، لا أريدُ أنْ أصلَ لمرحلةٍ ” بطَّلتْ فارقة” لذلك فإنّ الأمرَ أخطرُ كثيراً مما نتخيلُ، أخطرُ كثيراً من كلِّ الشعاراتِ الرنانةِ التي لم تَعدْ تُقنِعُ طفلاً أبلَهَ !
والتبلُّدُ يغزونا اليومَ على شكلِ عدمِ اكتراثٍ بمصائبِ المؤمنين، فإذا أبديتَ رأيكَ وتعاطُفَك مع قتلَى في أيِّ مكانٍ في العالمِ؛ ردَّ أحدُهم بكلِّ تبلُّد : ما دخلك أنت؟! مع أنّ الأمرَ عاطفيّ، إنسانيّ بحتٌ، وإذا ركضتَ لترى ما أسباب الصراخِ في بيتِ الجيرانِ سحبكَ أحدُهم وقال: ما دخلُك أنت، فخّار يكسر بعضه !!!
لقد أصبحتْ كلُّ المصائبِ عاديةً واعتياديةً؛ تمرُّ علينا مرورَ الكرامِ؛ ثُم نَغُطُّ في آخرِ الليلِ في سباتِنا الطويلِ دونَ اكتراثٍ، ولعلَّ من أسبابِه أيضاً ضعفَ المادةِ وغلَبتَها في علاقاتِنا الاجتماعيةِ؛ فنحن قطّعنا أرحامَنا لأننا لا نملكُ المالَ اللازمَ للزيارةِ ، ولا نُطعمُ المسكينَ لأننا نعتقدُ أنّ الطعامَ لدَينا لا يكفي لمشاركتِه مع شخصٍ آخَرَ!
أجل لقد وصلْنا إلى مرحلةِ التبلُّدِ، وأصبحنا نسمعُ أخبارَ العنفِ والاعتقالِ والقتلِ والانتحارِ.. ولا نكترثُ!؛ لذلك زاد الظلامُ والقمعُ والحصارُ والقتلُ البطيءُ والحروبُ الصامتةُ؛ لأننا تبلَّدْنا، وحينما تبلَّدنا التزمنا الصمتَ؛ فزادَ المُضطَّهِدونَ لنا، كأنهم يستخدمونَ منسوباً يرتفعُ مع ازديادِ سنواتِ الصمتِ والقبولِ والتبلُّدِ .
كتلك الحكمةِ الإنجليزية التي تقولُ : لا بأسَ بأكلِ الأسماكِ؛ لأنها بلا مشاعرَ، أجل فهي لا تُصدِرُ أيَّ ردّةِ فعلٍ مؤثرةٍ تُجاهَ أيِّ عمليةِ صيدٍ؛ لا بكاءَ ولا فِرارَ ولا أصواتَ !وذاكرتُها غبيةٌ، تنسَى بسرعةٍ وتعودُ إلى منطقةِ الخطرِ بعدَ خمسِ دقائقَ، تماماً مِثلَنا حينما نترحمُ على الأمسِ؛ وننسى ما حدثَ فيه من مآسٍ !
إنّ أصعبَ ما يمكنُ أنْ نصلَ إليه هو التبلُّدُ، لأنه مبرِّرٌ قويّ لازديادِ الظلمِ، فإنْ لم تصرخْ وترفضْ وتُعلنْ وجعَكَ على الملأِ؛ سيعتقدُ الجلادُ بأنك لم تتألمْ ! وإذا التزمتَ الصمتَ وقبِلتَ؛ فلا تلومَنَّ أحداً ، فذلك ليس من حقِّكِ .