كتاب الثريامدونات الثريا

هندرة وفلترة


محمد شفيق السرحي

برز مصطلح الهندرة، في علم الإدارة، بداية التسعينات، وهو مصطلح يجمع ما بين الهندسة والإدارة، ويقصد به ” إعادة هندسة العمليات “، بحيث يقوم في جوهره، على إعادة صياغة وهندرة الأعمال داخل المؤسسة أو المنظمة، من نقطة الصفر، والنظر للمؤسسة وعملياتها الداخلية من كافة أبعادها وجوانبها، وإعادة تشكيل كفاءتها جذريا، وإدخال تحسينات على المنظومة، بما يؤدي الى فاعلية أكبر، وانجازات أعظم.

لقد أمر اسلامنا وديننا الحنيف بالتحسين والاتقان “الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (السجدة: 7)، واتقان العلاقات والتواصل، وعلى رأسها، حسن التوجه لله تعالى، والالتزام بتطوير هذه العلاقة وتوطيدها، من قبل العبد المؤمن المسلم، وتنقيتها مما يعلق بها من شوائب ” فلترة “.

واقتضت سنة الله تبارك وتعالى، أن يعتري الإنسان الفتور، في طريقه إلى الخالق جل وعلا، لما امتاز به العبد من النقص والخطأ والنسيان، والفتن التي تحيطه من كل جانب، خاصة في زماننا المعاش، وفي هذا يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ” سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا. فإنَّهُ لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُهُ قالوا ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ قالَ ولا أَنا إلَّا أن يتغمَّدَنيَ اللَّهُ منهُ برحمةٍ واعلَموا أنَّ أحبَّ العملِ إلى اللَّهِ أدوَمُهُ وإن قلَّ. الراوي: عائشة أم المؤمنين، صحيح مسلم، الرقم: 2818 | صحيح.

فكان مطلوبا من المسلم أن يواصل التسديد والمقاربة، وألا يفتر من محاولات الاستدراك والفلترة الحثيثة، في إعادة هندسة عملياته جذريا، وصناعة التغييرات الأصيلة، وتنقية الشوائب , في العلاقة المطلوبة مع خالقه جل وعلا، والعلاقة مع الآخرين، والمحيطين به , وهذا ما سطره كتاب ربنا:” إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) الأعراف: 201).

لقد كان في البحث عن ملاذات آمنة لدعوته، بالهجرة إلى الحبشة، والذهاب إلى الطائف، وحفر الخندق، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وطرق التخطيط والتكتيك الأمني والعسكري، الذي وظفه النبي صلى الله عليه وسلم في المواقف المتعددة التي تعرض لها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يدخل في إطار ما يسمى “إعادة هندسة العمليات” ” الهندرة “.

وعلى صعيد العبادة، حرص النبي صلى الله عليه وسلم  على ترسيخ مفهوم ” الاتقان ” , و” الكفاءة ” , حيث ورد في الحديث المشتهر: ” أنَّ رجلًا دخلَ المسجدَ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في المسجدِ فصلَّى ثمَّ جاءَ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فسلَّمَ فردَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقالَ ارجع فصلِّ فإنَّكَ لم تصلِّ فرجعَ فصلَّى كما صلَّى ثمَّ جاءَ فسلَّمَ فقال لهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ارجع فصلِّ فإنَّكَ لم تصلِّ فرجعَ فصلَّى كما صلَّى ثمَّ جاءَ فسلَّمَ فقال لهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وعليكَ السَّلامُ ارجع فصلِّ فإنَّكَ لم تصلِّ ففعل ذلِك ثلاثَ مرَّاتٍ فقال الرَّجلُ والَّذي بعثَك بالحقِّ ما أُحسِنُ غيرَ هذا فعلِّمني فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا قمتَ إلى الصَّلاةِ فَكبِّر ثمَّ اقرأ ما تيسَّرَ معَك منَ القرآنِ ثمَّ اركع حتَّى تطمئنَّ راكعًا ثمَّ ارفع حتَّى تعتدِلَ قائمًا ثمَّ اسجُد حتَّى تطمئنَّ ساجدًا ثمَّ اصنع ذلِك في صلاتِك كلِّها” الراوي: أبو هريرة | المصدر: حلية الأولياء , الرقم: 8/428: صحيح متفق عليه. , وحديث أبو هريرة رضي الله عنه  نَهاني خليلي صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أن أنقُرَ في صلاتي نقرَ الدِّيكِ، وأن ألتفِتَ التفاتَ الثَّعلبِ، وأن أُقْعيَ كإِقعاءَ القِردِ”, الراوي: أبو هريرة | المحدث: الألباني، صفة الصلاة، الرقم: 131 |  والحديث حسن

وفي إطار هندرة العلاقة مع الآخرين يقول النبي صلى الله عليه وسلم:”ليس الواصِلُ بالمكافئِ، ولكنَّ الواصِلَ الَّذي إذا قطعتَه رحِمَه وصَلها”، الراوي: عبد الله بن عباس، الرقم: 3/344 |: صحيح ثابت.

وفي جانب العلاقات المالية، والبيع والشراء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: البيِّعانِ بالخيارِ ما لم يتفرَّقا فإنْ صدَقا وبيِّنا بُورِك لهما في بيعِهما وإنْ كذَبا وكتَما مُحِق بركةُ بيعِهما”، الراوي: حكيم بن حزام | المحدث: شعيب الأرناؤوط: تخريج صحيح ابن حبان، الرقم: 4904 |: إسناده صحيح على شرط مسلم.

لقد عبر القرآن العظيم، وهدي النبي الكريم، باللغة الجامعة المانعة، لكل المعاني المرادة، والنتائج المرجوة، من خلال عديد الآيات والأحاديث الكريمة، التي تختصر كثيرا من الكلمات والمقالات في أسبقية اسلامنا العظيم لهذا المفهوم الإداري وارتباطاته، وتشعباته المختلفة ” إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (الأحقاف: 13).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى