المختطفون المحرّرون الأربعة.. مراجعات نفسية للأسْر.!

أبو خالد محمد علي عوض .. المحاضر في جامعة الأقصى
نحمدُ الله ابتداءً أن ردّ إلينا إخواننا أبناء بلدنا أحرارًا بعد
استرقاق واختطاف دون وجه حق، ودون جريرة ارتكبوها، رغم ما قاله سفيهٌ منتفع أنهم
“متّهمون” وهو لا يدري عن سبب اختطافهم شيئًا، وقد تلبّس بدعاوى معرفة
حقوقية أهّلته سفاهتُه فيها لأن يعدّ المختطف متهمًا أصالةً لا بريئًا، فانظر كيف
يكون حالُ من يدافع عنهم ويترافع وهو لا يفقه ألف الكوز من ياء الذرة، لكن ماذا
نقول وقد سمح هذا الفضاء الأزرق للرويبضات أن يكون لهم لسان كذبٍ وهبل في
العالمين، كما سمحت لهم محلّات الملابس أن يتبدّلوا ويتكرفتوا فيظهروا أمام الناس
أسوياء جسدًا لكنهم المتخلفون عقلا المكسوحون قلبًا حتى يُرى ذلك في لئيم تقاسيم
وجوههم وتضاريس مناخيرهم.
التأثيرات النفسية الأولية على الأسير:
لكن ومن جهةٍ أخرى فإنّ ما يعانيه المرء في السجن لا يمكن أن
يوصَف، ولا يمكن أن يصفَه إلا من عالج أهوالَه وعاين شدائدَه ولأواءه، فلا يدرك
الصعبَ إلا من يكابده، فيكفي أن تطولَ به المدّة في الحبس وإن كان دون تعذيب، وهو
بين إخوانه من الأسرى حتى تضيق إمكاناتُه الفكرية، وتنحصر قواه النفسية، ويصير
عالمُه محصورًا بين أربعة حوائط، وبيئته التي يتعامل بها لا تتغير، فهم أسرى
مثلُه، وهو غيابٌ قسريٌّ عن مشهد الحياة، وحسرٌ لانطلاقات الخبرة وميادين الصبر
والتحمّل، وربما امتدّ به الأمر أكثر لدرجة تصير معها الحياة في السجن أحسنَ في
نظره من الحرية إذا ما خرج مثلا فلم يستطع التكيّف، فهو الذي اعتاد على هدوءٍ
مستمرّ تصدمه حياتنا بضوضائها وصرخات سيّاراتها و”شقاوة” صغارها، وصار
بإمكانه أن يرى نساء وإناثًا ويتعامل معهن وقد كان محرومًا من مجرّد رؤيتهنّ، فضلا
عن ما يحتاجه المرء طبيعيًّا وإنسانيًّا، ثم هو المعتاد على حياة رتيبة شبهِ
دقيقة؛ فالعددُ ثلاث مرار في أوقات محدّدة، والفطور والغداء في وقت معيّن، وكذا
الفورة الأولى والثانية، وكذا القوانين الصارمة لكل غرفة يكون فيها ضيفًا أو
منتميًا، فضلا عن تعوّده الاعتماد على نفسه وخدمته لها، فكيف يستطيع التكيف مباشرة
مع من يخدمونه بعد تحرّره، وكيف ينسجم مع هذه الأجواء عمومًا؛ لأنّه بالقطع سيكون
في أيامه الأولى هنا متلبّسًا بالأجواء السابقة هناك، فربما عامل زوجَه وأبناءه
وأقرباءه وأصدقاءه وفق منطق عسكريّ دقيق وهو يظنهم أتباعَه أو من هو مسؤولٌ عنهم،
والمسألة بعيدة من هذا جدًّا.
تأثيرات نفسية أكثر خطورةً:
هذا إذا كان الوضع “عاديًّا”، فما بالك إذا انضاف إليه
في سجنه تعذيبٌ نفسيٌّ مقنّن، وعزلٌ مستمرّ الذي هو أقسى ما يمكن أن يعانيَه أسيرٌ
مطلقًا [دراسة نفسية أكّدت أنه وصفة سحرية للاكتئاب والقلق والصعوبة في الفهم
والتركيز]؛ فربما أصابه بخفّة في عقله، أو عصبيّة شديدة تخزّنها الأيام، أو انكسار
في تصوّراته، وتشوّه في أدوات قياسه، وأتعس منه أن تكون له في هذه الأجواء وجباتٌ
من مداهمات من السجّان قاسية ومستمرة، وضربٌ يركّزون فيه على رأسه وتعطيل قوّة
أطرافه، وربما جعلوا منه وجبة نفسيةً لتجاربهم الرعناء وتسليتهم الحرام، فيجعلون
مرتبطًا شرطيًّا عند الأسير المعزول إذا طرقت “بساطيرهم” بطريقة معيّنة
أو إذا ضربوا على خوذاتهم قريبًا من معزله، أو تعالت ضحكاتهم بهستيرية، يجعلون ذلك
مرتبطًا بالاقتحام عليه وتحطيم ما تبقى من نفسيته وقوته الجسدية، فهذا بالضرورة إن
سمع مثل هذه الأصوات بعدُ في عالم الحريّة، فسيتكوّر تلقائيًّا، ويتحفّز، ويستعد
للمقاومة، وهو يتخيّل الصورة النهائية مضرّجًا في دمائه، ذا أنين وخنين..
ومن مظاهر ما تراه وترصده كذلك: التسرّع في اتخاذ القرارات، وعدم
القدرة الناجحة على اتخاذ القرارات، وضعف الثقة بالذات أو الآخرين، وتيبّس الحسّ
والشعور مع ميل واضح إلى الجمود ونوع من الغلظة وانزواء عاطفيّ، واللامبالاة، وعدم
الرغبة في الانفتاح على الآخر، والمعاناة ممّا يسمّى “متلازمة ما بعد
الحبس”، والتي تعني أنّ الأسير رغم الحرية ينقل مع نفسه قضبان السجن وأفكاره
وتعاملاته إلى واقعه
كلابُ الحرق النفسيّ!
زِدْ على هذا كلِّه فيما لو كانت هناك “وجبات” مقصودة
وربما كان مكلفًا بها مجاذيب من علماء النفس مثل الذين كانوا يحيطون بهتلر؛ يدرسون
النفس لا لإسعادها؛ بل للتفنّن في إشقائها وسماع آلامها في ساديةٍ لا يمكن أن
يفهمها إلا “المعاتيه” أمثالهم [راجع تشريح التدميرية البشرية، لإريك فروم]،
فتراهم مثلا يركّزون على أعضاء المعتقل الحسّاسة عبثًا وكهربةً، و”كسرَ
عين”؛ فقد حدّثتنا الأوراق الرسمية عن بعض السجون أنها تتقن هذا لا على
التكرار والأيام؛ بل بمجرد دخول أحدهم أو إحداهنّ السجن؛ إذ يكونون حريصين على كسر
نفسيته وتحطيمها من أول يوم؛ إما باختيار اسم امرأة له يُنادى به طول حياته أو
رقم، مع إلباسه ثياب الراقصات وإجباره على الرقص أمام المساجين أجمعين، مع قهر
المسجونين على التطبيل والتصفيق ونحو ذلك، فإذا ما أبدى أدنى مقاومة جيء بكلبٍ
مدربٍ ليحرق عفته وشرفه من وراءٍ؛ فربما يتحمّل المرءُ صنوف العذاب الجسدية، لكن
أنّى له أن ينسى هذا الإجرام الحرام حتى مع اسم الكلب يطرق أذنه بعد ذلك، وليس
رؤيته أو سماع صوته.!!
مثالان خطيران من قصتين واقعيّتين:
إنّ من واجبنا العقليّ والضرورة النفسية أن نفهم أن عدوّنا يحرص
على أن يخرج لنا أبطالنا دون أن نستفيد منهم استفادة حقيقية فعلية، لكن ليس من
مشكل إلا وله علاج إذا تصدّى له الرجال الأكْفاء.. إنّني أذكر هنا بين يدي كلامي
لحضراتكم شفاهًا على يد الكيبورد مباشرة للوورد أخًا حبيبًا نيّف مكوثه في السجن
على عشرين سنةً، أدى به حصرُ تفكيره للزواج مباشرة دون تفكير ولا سؤال؛ فقد كانت
الزوجة معروفة وهي قريبة أحد الأسرى أصدقائه في السجن، ليكتشف لاحقًا خفةً في
عقلها، وعدمَ قدرة على التكيف المعيشي معها، وأنه يهرب من البيت باستمرار ليجد
أجواء قريبة من أجواء السجن تكون أهونَ عليه من سجن البيت؛ ما يعني بكل بساطة أنّ
أهله أنفسَهم كان يقع على عاتقهم مسألة التفكير أكثر والسؤال المعمّق ونصحه الشديد
من كل وجه، بل وإدخال وساطات في مثل هذه المسائل حتى لا تزلّ قدمُه وييبسَ عقلُه
في مهاوي علاقة تأبيدية تبغّض إليه الحرية!
ونذكر الأخ الكريم الذي كان معتقلًا ولي من العمر خمسُ سنين؛ كيف
كان يسارع في إغلاق كل نافذة أو باب يفتَح، وكيف كان يتكوّم على ذاته، ولا يطيق
جلسات الكراسي بل على الأرض مباشرةً، ثم هو لم يقبل من أسرته سوى أمّه، وما يدريك
ماذا يُصنَع خلف أبوابٍ أغلقت على عيوننا النظر، وأغلقت دون عقولنا المتابعة..
وجوب الخدمة النفسية من جمعيّات الأسرى:
إنّنا لا نقول هذا احتمالًا؛ بل تأكدًا بالدربة النفسية الواقعية،
ومن قياس الأمور بنظائرها، ومن حبِّنا أن تكون أمور الحرية أمورًا حقيقية.. إنّ لك
أن تتخيّل هذا الوفاء الجارف الذي أدامه الله تعالى وسامًا على فتاةٍ انتظرت
خطيبها لا زوجها ست عشرة سنةً؛ هي لا تعرف عن الدنيا إلا الحرية والطلعة والنزلة
و”الشقاوة” وتحقيق كل ما تريد، والتوسّع في المال، في حين هو ليس له من
دنياه إلا مساحات محصورة، وقمعات، وإضرابات، ووجوه لا تتغير، وأخطر من هذا كله
توقف الزمان لديه عند الوقت الذي دخل فيه إلى السجن.. إنه لا يستطيع بالضرورة
استيعاب الأضواء الساطعة، ولا يتكيف سريعًا مع التقدم العمراني والأحزمة الخضراء،
ولا يتصوّر أنّ كل ما يريده الآن ممكنٌ، هذا يحتاج إلى تدريج منضبط محكومٍ بقواعدَ
علمية وليس مجرد خدمة أسرية متوقّعة؛ إنه وزوجَه وأسرته جميعًا محتاجون إلى هذه
التدريبات الواجبة. وهنا نسأل: لماذا لا تهتم الجهات المعنيّة بالأسرى بإعداد
عوائلهم لاستقبالهم نفسيًّا كما يكترثون لبهرجات الإفراج وبلالين الاحتفال ودوشات السيارات.
إنّ أشدَّ ما يمكن أن نعانيَه منهم أن يظنّوا أنّ ابنهم الذي غُيّب عنهم قسرًا قبل
عشر أو خمس عشرة أو أكثر من عشرين من السنين هو نفسُه تمامًا الذي سيستقبلونه غدًا
أو الآن، هذا لا يشبه في انحرافه النفسيّ إلا تصوّر الأسير السابق أن الدنيا
توقّفت عند زمن سجنه، ولا تزال تنتظره كما هي، وإلى الله المشتكى!
تغييرات أفكار مجتمعية خدمة للصحة النفسية:
إنّ المؤسفَ أكثر هنا أنّ الأسرة العربية لا تزال ترى في الطب
النفسيّ حرامًا أو شيئًا مؤذيًا مجتمعيًّا، ولا تزال تربطه في لاشعورها بالإشكال
النفسي الذي إذا ضُبط صاحبُه “متلبّسًا به” عدّوه سببًا مانعًا من
الزواج أو الاقتراب ونحو ذلك من الهبليّات المجتمعية المشهورة، على أنّ
“افتراء” بعض الأطباء النفسيين في وصف الأدوية النفسية يحتاج منّا إلى
مساحة خاصة أكثر علمية وواقعية لاحقًا، أمّا الآن فما نريده أن يكون مفهومًا
وواضحًا أنّ هذه خدمة نقدمها لأسرانا، وصدقًا أنا في غاية العجب من أننا لا نزال
شعبًا محتلًّا وأهلنا لا يزالون بين جزْرٍ بأسر ومدٍّ بحريّة، ولم تنشأ عندنا هذه
المراكز النفسية التي تضع مخططات مسبقة لكل أسير وعائلة بحسب المدّة والتحصيل
العلميّ والحالة الاجتماعية والسجل الطبيّ وما تعرّض له تفصيلًا والوظيفية ونحو
ذلك من معايير؛ حتى تكون مستعدة لجلسات نفسية وإن كانت دون علم الأسير؛ فأفضلُها
وأجملُها ما تقوم به أسرتُه يبدو عاديًّا وهو ضمن خطة التأهيل النفسيّ الضرورية
واللازمة والواجبة.
وما أقدّمه هنا محاولة إعادة دمج للأسير مع نفسه وأسرته ومجتمعه؛
فكما أنّ بعض الدول ترفض دمج “الأغراب” أو “المهاجرين” إليها
إلا بعد أن يفهموا لغتها وعاداتها وتقاليدها، وتعطيهم في هذا محاضرات واجبة، فإنّ
من واجبنا تعليم الأخ الأسير لغته الجديدة التي يتعامل بها مع أصناف متعدّدين غير
الذين كان يتعامل معهم وينحصر فكره وتفكيره بهم.
دعوة لدراسات علميّة عمليّة جادّة:
وأرجو ختامًا أن يكون هذا واجبًا ولا يخضع لمزاجات الأسَر، لا سيما
فيما طال من المدَد وغلب على الظنّ وجودُ المشكل الواضح فيه، وهي كلماتٌ واجبةٌ في
خدمة هذه الطائفة المخلصة التي قدّمت لدينها ووطنها وشعبها أغلى ممّا قدّمه
الشهداء أنفسُهم؛ فالقتل في التحليل الواقعي النفسي لا يأتي مرتين، ولا يدوم
انشغالُ الذهن الأسريّ به، في حين الأسْر هو حالة من التشظّي النفسيّ المستمر
والتفكير المتكرّر، والعيش اليوميّ مع الأسير في رائحة وسادته ومتروك ملابسه
ومكانه في الغداء وطعامه المفضّل ومحلّ جلوسه في الجامعة والوظيفة والمتنزّه حتى
خرابيشه على حائط المطبخ وطريقة “تخريطه” الفليفلة لتزيين السلطة… كل
هذه مجدّدات لسكاكينَ نفسية مستمرة تعيش مع الأسير وأسرته لا تُرى أدنى صورها مع
الشهيد الكريم.
أرجو أن يكون هذا أرضيةً للمساهمة في خدمة واجبة لإخواننا الأسرى،
وموجبًا على المسؤولين أن يراجعوا جانبه للأهمية القصوى إتمامًا لجهودهم في
التحرير، كما أرجو أن يكون فاتحة لدراسة نفسية عملية بمستوى أبحاث الماجستير
والدكتوراه تكون واجبة جدًّا كذلك كالمراجعات الطبية التي يخضع لها المحررون
للتأكد من صحة أجسادهم..