مُعتز أيوب “جوكر الميدان” بينَ مُسعِفٍ وممرضٍ وسائقٍ وإطفائيّ !

السعادة _ آلاء عاطف النمر
ثوبٌ أبيَضُ ناصِعٌ، وسَيارةُ إسْعافٍ بذاتِ اللونِ؛ تتبنّى شارةَ هِلالِها الأحمَر، إلى أنْ ارتقَى مُذ كان صغيراً بلمَعانِ عيونِه؛ لأنْ يصبحَ مُسعِفاً في مُستقبلِه القريبِ، بَدأ يسابقُ عَمَّه في الوصولِ إلى مقودِ سَيارةِ الإسعافِ؛ عَلّه يحظَى بشيءٍ مِن حُلمِه أو يكبرُ عَليه، ليضحي صَاحبَ المِهنةِ قبلَ تَجاوزِ مَراحلِ دراستِه الأساسيّةِ، بَقي بإصرارِه المُبكرِ يرافقُ شقيقَ والدهِ فِي المَقعدِ الأمامي، يحفظُ تفاصيلَ الطرُقِ وخبايا العملِ بشغفِ الحَالمِ بذاتِ المِهنةِ.
المُسعِفُ “معتز فايز أيوب” خمسةٌ وعشرونَ عاماً؛ وصلَ إلى حُلمِه؛ وحقّقَ مُرادَه بعدَ محاولاتِه الجادةِ في الحَبو نحوَ سيارةِ الإسعافِ التي يمتلكُها عمُّه “خالد أيوب” منذُ عقودٍ، فلم يقطعْ مسافةَ سنواتٍ عديدةٍ من عُمرِه ليصبحَ ما يريدُ، بل تَجاوزَ مراحلَ عُمرِه المبكرِ؛ وحازَ على رتبةِ “ضابطِ إسعافٍ”؛ لمهاراتٍ متقدّمةٍ يمتلِكُها.. على خلافِ زملائهِ من ذاتِ عُمرِه.
“ممرضاً ومسعِفاً”
وضَعَ المسعفُ “أيوب” خطواتِه الأولى على عتباتِ العملِ الميداني في دائرةِ الدفاعِ المَدني للإسعافِ والطوارئِ في عُمرِ الخامسةَ عشرَ؛ وذلكَ قبلَ وضعِ خطواتِه الأولى على عتباتِ دراستِه الجامعيةِ المختصةِ في علمِ الإسعافِ؛ إلى أنْ حفِظتْ وجهَه أروِقةُ المقراتِ الرسميةِ، وسائقو الإسعافِ، وعيونُ المسؤولينَ والمُدراء.
بينَ تخصُّصَيِ التمريضِ والإسعافِ والطوارئِ؛ قضى “أيوب” سنواتِ دراستِه في صروحِ علومٍ مختلفةٍ؛ ليجمعَ بينَ تخصُّصينِ في مدةٍ قياسيةٍ، ويتجاوزَ مرحلةً علميةً لا بدَّ من المرورِ فيها، لكنه حظيَ بإنهاءِ تخصُّصِ الإسعافِ عن تخصُّصِ التمريضِ الذي تَجاوزَ فيه مرحلةً متقدمةً، فالوقتُ المزدحمُ بدراسةِ تخصُّصاتِه، والمداومةُ في عملِه؛ لم يُسعِفْه لإنهاءِ التخصصينِ معاً.
“على أرضِ الواقعِ حظيتُ بكُلِّ ما يجبُ عليَّ تعلُّمُه في تخصصِ التمريضِ، وعِلمِ الإسعافِ الذي يتجاوزُ في زخمِه علمَ التمريضِ، صقلني وأنتجَ مني مُسعِفاً وممرضاً وسائقاً ماهراً؛ بعدَ حصولي على رخصةِ قيادةِ سياراتِ الإسعافِ، وحصولي على رخصةٍ أخرى في قيادةِ سياراتِ الإطفاء”. يقولُ المسعفُ “معتز” في حوارِه مع “السعادة” التي آَثرتْ أنْ تُظهرَ المسعفَ الذي يتصدّرُ الصفوفَ الأولى، وخطوطَ النارِ مع الثائرينَ من أبناءِ وطنِه.
لم تكنْ الطريقُ التي فتحتْ ذراعَيها لـ”أيوبَ” مبسوطةً؛ مُذ بدأ يمارسُ أُولى تجاربِه الميدانيةِ والعمليةِ على أرضِ الواقعِ عام2011) )؛ بل كان يواجِهُ عبوساً وتملُّقاً من أصحابِ الخدماتِ القديمةِ، والذين بقَوا على حالِهم وعلى وظائفِهم في تأخُّرِ دَورِهم وتقدُّمِهم إلى صفوفِ النجاحِ.
“صِغرُ سِني كان عقبةَ عملي منذُ البدايةِ مع معظمِ العاملينَ الذين يكبرونَني سِناً، ويسبقونني عملاً، فكان تكليفي بمهمّةِ الإشرافِ على سياراتِ الإسعافِ التي تتأهبُ للانطلاقِ إلى مَهامِّها الرسميةِ؛ مَطلعَ المَهامِّ الجادةِ المُوكَلةِ إليَّ؛ وكنتُ قد سجّلتُ نجاحاً في أدائها”، يحكي “أيوب”.
“الرجلُ الجوكر”
أولُ الأحداثِ الحادّةِ التي خاضَ غمارَها “أيوب”؛ لم يكنْ خلالَها ضِمنَ منظومةِ العملِ الإسعافي؛ لكنه أصرَّ على مرافقةِ عمِّه في أيامِ الحربِ العدوانيةِ الأولى على قطاعِ غزةَ عامَ (2008)؛ ليواجِهَ الموتَ عَياناً في مواكبةِ مخاطرِ العملِ التي أتقنَ حِفظَها ومعرفتَها جيداً؛ وقتَ أنْ كان طالباً في الصفِّ الأولِ الثانوي.
مسؤوليةُ العملِ الذي تحمّله “أيوب” على عاتقِه؛ تَكلّفَ بها رسمياً عامَ (2012)؛ بعدَ إنهاء مراحلِه التطوعيةِ والتدريبيةِ، وأصبح موظّفاً رسمياً في دائرةِ الدفاعِ المَدني للإسعافِ والطوارئ؛ حتى باتَ يُعرَفُ بالرجلِ “الجوكر” لدرايتِه وقدرتِه على إدارةِ عدّةِ مَهامٍّ في وقتٍ واحدٍ.
“كنتُ شديدَ التركيزِ وقتَ صِغري في عملِ الإسعافِ؛ فقد عرفتُ العملُ على إصلاحِ الأعطالِ الفنيةِ التي تحتاجُ لمركزِ صيانةٍ مختصٍّ لفحصِها، ومكّنتُ قدراتي باجتهادي لأنْ أكونَ (سائقاً، وإطفائياً، وممرضاً، ومسعفاً، وفنياً) وكنتُ صاحبَ قلبٍ قويٍّ يتحملُ المَشاهدَ، والعملَ المتواصلَ لأيامٍ، فنجحتُ في مساري كما سعيتُ إليهِ بشَغفي”.
تفوُّقُ “أيوب” في مهاراتِ القيادةِ السريعةِ، وتفوّقُه في التحكمِ بها في أوقاتِ الطوارئ؛ أهلَّه لقيادةِ سيارةٍ وحيدةٍ تمتلكُها وحدةُ الدفاعِ المَدني؛ وهي سيارةُ “الإصاباتِ المتعدّدة” والتي يتجاوزُ طولُها ثمانيةَ أمتارٍ.
يقولُ المسعفُ “أيوب” :”أوكِلتْ إليّ سيارةُ الإصاباتِ المتعددةِ في العدوانِ الحربيّ على قطاعِ غزةَ عامَ (2012)؛ وهي السيارةُ الوحيدةُ التي تمتلكُها وحدةُ الدفاعِ المَدني في قطاعِ غزةَ؛ لندرةِ توفُّرِها، وتعدُّدِ مَهامِّها في الأوقاتِ الاستثنائيةِ؛ كنشوبِ حربٍ عدوانيةٍ شرسةٍ على المَدنيينَ والبيوتِ السكنيةِ، ما ألزمَني أضعافاً بمَهامّي؛ وأدائها على أكملِ وجهٍ دونَ الركونِ إلى الراحةِ ولو لساعاتٍ”.
( 48) ساعةً عصيبةً
سيارةُ “الإصاباتِ المتعددة” تتمتعُ بحَوزتِها على ثلاثِ أَسِرّةٍ؛ تعتليها أجهزةٌ علاجيةٌ سريعةٌ؛ وتستطيعُ أنْ تحوي عشراتِ الضحايا من أصحابِ البيوتِ المدمّرةِ؛ وإخلائهم من مناطقِ الخطرِ إلى مناطقَ أكثرَ أمناً من غيرِها.
“أشلاءٌ لأطفالٍ ورجالٍ ونساءٍ، وعشراتُ الضحايا، بل مجزرةُ قتلٍ بالجملةِ؛ كان المَشهدَ الأولَ الذي أصادفُه في حياتي كلِّها؛ حينما وصلتُ لمجزرةِ عائلةِ “البطش” أيامَ العدوانِ، وبدأتُ بانتشالِ الجثثِ المتراميةِ؛ وإيصالِها بسيارةِ الإسعافِ “الطويلة” إلى المستشفى؛ وأعودُ مجدَّداً بها لإكمالِ عمليةِ النقلِ، والقيامِ بواجبِ المسعفِ خلالَ الطريقِ، وكنتُ أعاودُ قطعَ المسافةِ ذاتِها ذهاباً وإياباً؛ والتي كانت تمتدُّ من وسطِ جباليا البلدِ، وحتى مستشفى “كمال عدوان” لخمسِ مراتٍ وأكثرَ”، يقولُ “أيوب” والدهشةُ تتملَّكُه؛ وتعيدُه لأيامِ العدوانِ الماضيةِ.
“أكثرُ المَشاهدِ التي أشعلتْ الشيبَ في رأسي؛ هو مشهدُ المجزرةِ التي حلّتْ مساءً بعدَ عائلةِ “البطش” بجمعيةِ المعاقينَ للأطفالِ شمالَ القطاعِ؛ كانت المَشاهدُ لا توصَفُ لأطفالٍ موتَى دونَ حراكٍ؛ فلم يُسعفنِ الموقفُ لأنْ أحملَ الأطفالَ من ذوي الحاجاتِ الخاصةِ؛ وهم شهداءُ دونَ أنفاسٍ متبقيةٍ في أجسادِهم، المَشهدُ كان مؤلماً لدرجةِ أننا لم نَقوَ حتى على المُشاهدةِ “!
“لم نأخذْ قسطاً كبيراً من الراحةِ بعدَ كلِّ المشاهدِ الداميةِ؛ بل وصلتنا إشارةٌ مباشرةٌ بالوصولِ إلى مكانٍ آخَرَ حلّتْ به مجزرةٌ أخرى؛ فكانت الإشارةُ تحملُ عنواناً لمدرسةِ “أبو حسين” التي ضمّتْ داخلَها اللاجئينَ إليها من أصحابِ البيوتِ المدمرةِ والمُهدّدةِ بالقصفِ”.
يكملُ “أيوب” حديثَه :”كانت ((48 ساعةً داميةً لم نشهدْ لها مثيلاً ! كانت خاليةً من ساعاتِ النومِ، أو حتى الركونِ إلى غرفةٍ هادئةٍ خاليةٍ من الدماءِ، والأشلاءِ، وصراخِ النساءِ والأطفالِ! كلُّ ما كان يشغلُنا هو انتشالُ، وإنقاذُ، ومحاولةُ تهدئةِ بعضِ العائلاتِ، وإخراجِها من حالةِ الذعرِ”.
وفي محاولاتِ الانتصارِ التي يمارسُها رجالُ الإسعافِ على أنفسِهم خلالَ أيامِ العدوانِ، يصفُ “أيوب” :”كُنا في كلِّ حدَثٍ نحاولُ التعالي على أنفسِنا، والخروجَ من مكانِ الحدثِ؛ بإخراجِ ما في دواخلِنا من ضغوطٍ وتراكماتٍ أولاً بأوّل؛ عبرَ سماعَ الأغاني الحماسيةِ، أو حتى سماعِ أغاني الدبكةِ الشعبيةِ! فقط لأنْ نقوَى على إكمالِ المسيرِ؛ وإلّا فالهزيمةُ يُمكِنُها أنْ تغلبَنا وتُقعِدَنا دونَ حراك”.
“بينَ كلِّ هذه الأحداثِ، والغيابِ الطويلِ عن أهلي، كانت اتصالاتُ أمي تقطعُ ضجيجَ الأحداثِ، فكانت ترسلُ فيضَ دعواتِها عبرَ سماعةِ الهاتفِ، فتزيدُ اطمئناني، وتَشحذُ همّتي بالمزيدِ من التضحيةِ لأداءِ واجبي”.
مجابهةُ الخطرِ هي أصلُ العملِ الذي يلاحقُ رجالَ الإسعافِ والطوارئ، فهي لا تخلو من القصصِ والرواياتِ والمَشاهدِ والمواقفِ الصادمةِ والمُبكيةٍ؛ إلى حدِّ عجزِهم عن رفعِ سقفِ خدماتِهم لإنقاذِ الأرواحِ المتراميةِ أشلاؤها في أنحاءِ مكانِ الحدَثِ.
حضورُ الواجبِ
بعد ما يزيدُ عن السبعةِ أعوامٍ من التحاقِ “أيوب” بعملِ الإسعافِ والطوارئ، ومجابهتِه الصفوفَ الأُولى في ثلاثةِ حروبٍ عدوانيةٍ على قطاعِ غزةَ؛ انطلاقاً من شعورِه بالواجبِ الحَتمي تُجاهَ أبناءِ شعبِه؛ فكانت أحداثُ مسيراتِ العودةِ واحدةً من الأحداثِ التي طلبتْ أصحابَ الواجبِ لتتقدمَ الصفوفَ في وجهِ الموتِ ومرافقةِ الثوارِ.
“لم يَفُتْني يومُ جمعةٍ إلّا وكنتُ بينَ إحدى التجمعاتِ المحتشِدةِ أمامَ الحدودِ الفاصلةِ بينَ قطاعِ غزةَ والأراضي المحتلةِ، كان دوري يقتصرُ على الحضورِ الإسعافي في الميدانِ؛ دونَ الابتعادِ عنه إلا بعُذرٍ أو تبليغٍ رسميٍّ؛ فنحن نسبقُ سياراتِ الإسعافِ بمسافاتٍ متقدّمةٍ، ونبتعدُ كذلك عن الخيامِ الطبيةِ التي تعالجُ الإصاباتِ، لنقفَ على أهبةِ الاستعدادِ لحَملِ مصابٍ، أو تجاوُزِ المسافاتِ الصفريةِ أمامَ جنودِ الاحتلالِ بهدفِ الإنقاذ”.
واحدةٌ من تلكَ الجُمعِ؛ كانت تَحملُ حدَثاً مخيفاً لـ “أيوب” وعائلتِه كذلك؛ وكان قدَرُه أنْ يستلمَ أداءَ واجبِه على الناحيةِ الشرقيةِ من دوارِ “أبو صفية” إحدى النقاطِ الأساسيةِ لتجمعاتِ مسيراتِ العودةِ، وكان قدَرُ ابنِ عمِّه أيضاً أنْ يكونَ على مقربةٍ من ذاتِ المكانِ.
“في حالةِ أنْ يصابَ أحدُ المُحتشدينَ؛ نكونُ السباقينَ لحملِه دونَ تأخُّرٍ، فكان من بينِ مَن وصلتُ إليهم _والحزنُ يتملّكُني_ لأنه طفلٌ صغيرٌ قبلَ معرفتي بهُويتِه، ابنُ عمي الطفلُ “محمد أيوب”، كرّرتُ النداءَ على اسمِه لكنه لم يُجِبْ لي ولو مرةً واحدةً”_ يتحدث “أيوب_”.
يتابعُ :”حملتُه وأوصلتُه لسيارةِ الإسعافِ؛ وأبلغتُ الطاقمَ بأني سألحَقُ به لأطمئنَ على صحتِه، لكنه سُجّلَ شهيداً، فحفظَ الميدانُ دماءَه واسمَه معاً، وكنتُ قد حفِظتُ آخِرَ مَشاهدَ ارتقى فيها طفلُ عائلتِنا”.
مواقفُ خالدةٌ
التضحياتُ التي يراها “أيوب” بأمِّ عينيهِ؛ أجبرتْهُ على الحضورِ خلالَ الأيامِ التي تكونُ ضِمنَ إجازتِه الرسميةِ، فلم يتأخّرْ يوماً عن تسجيلِ الدخولِ إلى دوّارِ “ملَكة”، أو شرقَ “أبو صفيّة”، فالواجبُ منعَه من الغيابِ؛ حتى ولو لمرةٍ واحدةٍ، يقول :”كنتُ أزعلُ لمّا ما ألاقي اسمي بكشفِ الدوام”!.
واحدةٌ من تلك المراتِ؛ ارتدَى “أيوب” لباسَه الرسمي “المَدني”؛ وركبَ دراجتَه الناريةَ برفقةِ صديقِه نحوَ الحدودِ، لم يكنْ مستعِداً سِوى للمشاركةِ والاحتشادِ مع المتوافدينَ من العائلاتِ والأطفالِ والرجالِ وكبارِ السنِّ لأجلِ حقِّ العودةِ.
“قُدرتي على إسعافِ المصابينَ، وإتقاني للمِهنةِ؛ لم يدَعْ السكونَ يُكبِّلُني؛ بل عثرتُ على سُترةٍ من زملائي؛ وتكفلتُ بإسعافِ بعضِ الحالاتِ الواردةِ إلى خيمةِ الأطباءِ المستقرّةِ على دوارِ “مَلَكة” الحدودي، وكنتُ في هذه المرةِ أصادفُ أصعبَ الحالاتِ، وأكثرَها خطراً منذُ بدايةِ الأحداثِ، وأكثرَها غرابةً كذلك”.
كانت الإصابةُ للشاب “يوسف تيّم” _الذي وصفَه المُسعفُ أيوب “بالخَلوقِ”_ في الذراعِ الأيسرِ، واخترقتْ جهةَ الصدرِ، فكانت حالتُه معرّضةً للموتِ أكثرَ منها للحياةِ؛ إلّا أنّ عملَ اللازمِ، ومحاولاتِ إبقاءِ الأنفاسِ حيّةً؛ هي وحدَها واجبُ المسعفِ في اللحظاتِ الأولى للإصابةِ.
“غابَ الشاب “يوسف عن الوعي”؛ وبدأ يعلنُ ما في داخلِه بصوتٍ يعلو شيئاً فشيئاً، كان يقرأُ القرآنَ، ويرتلُ بصوتٍ جميلٍ، ويستجلبُ الأنظارَ حولَه، أدهشَنا وتملَّكنا الإصرارُ على البقاءِ إلى جانبِه لإبقائه على قيدِ الحياةِ، وكنتُ قد رافقتُه حتى وصولِه المستشفى؛ بالضغطِ على إصابةِ صدرِه بقوةٍ لمنعِ دخولِ الهواءِ”. يواصلُ “أيوب” حكايتَه مع الشاب “يوسف تيّم”:
“دخلَ غرفةَ العنايةِ المكثفةِ لمدةِ أسبوعٍ كاملٍ؛ وكنتُ أترقّبُ حالتَه الصحيةَ من قُربٍ؛ من خلالِ تردُّدي على المستشفى، وزيارتِه للاطمئنانِ على وضعِه الصحي، فرغمَ خطورةِ وضعِه؛ إلّا أنه وصلَ لمرحلةٍ مستقرّةٍ من التعافي، وتجاوَزَ مرحلةَ الخطرِ”.
عادَ الوعيُّ للشاب “تيم”؛ فكانت فرحةُ المسعفِ “معتز أيوب” عارمةً بنجاحِه في إنقاذِ حياتِه، وكانت كذلك فرحةُ الشابِّ مشابِهةً لمعرفتِه الشخصَ الذي واصلَ جهدَه البشريّ في محاولةِ إبقائه على قيدِ الحياةِ، ليعانقا بعضَهما ويتعاهدا على مواصلةِ الاطمئنانِ على كليهِما.
لم تنتهِ المواقفُ؛ ولم تفرغْ القصصُ من جَعبةِ “المسعف أيوب”؛ فهي مليئةٌ بل مكدّسةٌ بالكثيرِ من الوجوهِ والقصصِ والعملِ الشاقِّ، وعناءِ المهنةِ بينَ تلَقّي إشارةٍ؛ وصعوبةِ الوصولِ إليه؛ وهولِ المَشهدِ المنتظَرِ.
“أيوب” في مرحلتِه الحاليةِ يمارسُ دورَ ضابطِ إسعافٍ؛ واستطاعَ كذلك تجاوُزَ تجهيزِ وإعدادِ مدربٍ إسعافي؛ ليتألّقَ في تقديمِ الدروسِ التدريبيةِ والعمليةِ لصالحِ المُقبلينَ على تعلّمِ المهنةِ على أصولِها_ حسبَ وصفِه_.
“السعادة” سألت “أيوب” إنْ كان يطمحُ بالمزيدِ من الرفعةِ في عملِه؛ لكنه أجابَ بقولِه، :”في مرحلتي العمريةِ الحاليةِ؛ اكتفيتُ بالبحثِ عن نفسي بين ثنايا العملِ؛ وأطمحُ بالعثورِ على زوجةِ المستقبلِ التي تنافسُني في تجاربي العمليةِ والمفيدةِ للحياةِ بتفاصيلِها، فكُلُّ ما يدورُ في ذهني الآنَ؛ هو تأسيسُ عشِّ الزوجيةِ لإكمالِ ما تبقَّى من أحلامي”.