الأسرة و”التثقيف” الحزبيّ

بقلم د. محمد عوض محاضر بجامعة الأقصى
ذكر الخطيبُ –أمسِ الجمعة- إشاراتٍ نفسيةً حول خطورة عمل الأسرة التي هي نواة الدولة لا المجتمع فقط، على صعيد عدم قبول الآخر، والعمل على تحقيره وتسفيهه وتسخيفه، وتضخيم الأنا داخل أبناء الأسرة كأنهم عِرقٌ آريّ نظيفٌ مقابل عالمٍ خادمٍ لهم، أو كأنها نطفةُ الحصان الخالصة مقابل الأغيار المخلوقين تسخيرًا خدمة لهم.!
فإذا ما انضاف إلى ذلك التشظّي الموجود والمحتمل طغيانُه مع وسائل التفاصل الاجتماعيّ، فستجد أنّ هذا أسهم مباشرة في جلسات “التيك أواي”، التي ربما لا تكون إلا على الطعام فقط أو بسبب جبر وجود الضيوف، ولا ننسى هنا الطبيعة “الشنبية” التي قد يقع في حمّاها بعضُ الرجال والآباء، والتي بها لا يقيمون اعتبارًا لزوجاتهم فيصيّرونهنّ جزءًا من متاع البيت، ولا يعدّون أدنى قيمة لأبنائهم فيجعلونهم المأمورين المطيعين في حضرة المدير القاسي الجِلف..
وهذا ما تؤكده بعضُ السياقات في حديث أمّ زرع الشهير كالوالد المتوهّم نفسَه قائدًا عسكريًّا يتعامل مع أسرته كجنودٍ “إذا دخل فهِد، وإذا خرج أسِد، ولا يُسأل عمّا عهد”، أو تلك التي ابتُليت بزوجٍ كان “ظلُّ الحيطة” أهونَ عليها منه، وأرضى لبنيها من “فيئه وظلاله”، فهي على “غُلبها” رضيت بهذا اللحم الغثّ المهزول الضعيف الذي لا يُلتفت إليه، ومع ذلك كانت إذا أرادت منه شيئًا ظنّ نفسه أمرًا ذا بال، فهو على رأس جبل وعر، لا تستطيع الوصول إليه ولا التفاهم معه..
تصوّر أنّ الأسرة تصدّر للمجتمع أبناء في هذا الإطار، كيف سيكون تعاملهم مع الناس والآخرين، وكيف سيكون تقبلُهم لهم، وقد أخذوا وصفةً من الإقصاء والإلغاء وعدم الاحتمال للآخر تكفيهم سنواتٍ ضوئيةً. إنّ الأسرةَ إذا لم تقدم النموذجَ المميزَ في التعامل الراقي بين الزوجين، وهما ركناها الأصيلان الأهمّ، وإذا لم تعطِ مساحةً للتواصل الفاعل الفاهم الجميل اللطيف مع الأولاد، فهذه وصفة لمجتمع متداعٍ من الداخل، رافضٍ لذاته وكارهٍ لنفسه، فليُنتبه.!
وقد كانت القَبَليّة عند العرب سابقًا أساسًا أصيلا لبناء العلاقات أو تصرّمها مع الآخر، ثم غدت في أيامنا هذه الحزبيةُ بديلا شبهَ شرعيّ لها، حتى صار بعضُ الناس ربما حارب قرابته وقطع أرحامه وكره والديْه لأنهم يخالفونه فكريًّا حزبيًّا، أو لأنهم يناقشونه مجرد مناقشة، فضاعت الألفة وطاشت سهامُها وارتدت لأهلها، وخارت قوانا لعدم توجيهها في إطارها المستحقّ..
هذان أخطر محضنين يمكن أن يؤثرا تأثيرًا فعليًّا وذا بال في طبيعة التماسك المجتمعي والتعاضد الخارجيّ، ومتى ما لم تنشر أشرعة الود والاحترام، وترمّم العلاقات الداخلية، ويعتقد الواحدُ منّا أنّ الوحدةَ أصلٌ في الدين وفرضٌ مقدمٌ على سواها من العبادات، فإنّ الخطر سيظل يداهمنا من عدوّنا الذي هو نحن والمتربّصون بنا الدوائر والانشغالات وغياب الأولويات، فابدأ من بيتك الإعداد لمدينة الحضارة، ومدنيّة التفكير، فأنت أهمُّ لبنة فيها وأسرتُك الكريمة.!