دين ودنياكتاب الثريامدونات الثريا

الصلحُ الاجتماعيّ بينَ الواقعِ والمأمولِ

كتبه د. ياسر فوجو – استاذ مساعد بكلية الشريعة والقانون الجامعة الإسلامية غزة.

يُعَدُّ الصلحُ الاجتماعيّ إحدى ركائزِ المجتمعِ الإسلامي؛ الأمرُ الذي يجعلُ الحفاظَ عليه من أوجبِ الواجباتِ؛ وهو مسؤوليةٌ جماعيةٌ تستوجبُ مشاركةَ الجميعِ؛ لتحقيقِه على أكملِ وجهٍ، وأعظمِ مَقصدٍ؛ لذا فإنّ الصلحَ الاجتماعيَّ يتطلبُ مِنا وعياً بوسائلِه ومتطلباتِه المختلفةِ.

وقد أشارتْ الشريعةُ الإسلاميةُ في كثيرٍ من نصوصِها على مفاهيمَ وأُسُسٍ تُحقّقُ الصلحَ الاجتماعيّ؛ وذلك من خلالِ الصدقِ، والعدلِ، وحُسنِ الخُلقِ، وحُسنِ الجوارِ، والأمانةِ؛ فكُلُّ هذه المفاهيمِ وغيرِها؛ تساهمُ مساهمةً أساسيةً في تحقيقِه، والتأكيدِ عليه، ولم تكتفِ الشريعةُ الإسلاميةُ بالنصوصِ النظريةِ لتحقيقِ الصلحِ الاجتماعيّ؛ بل تَعدّتْ إلى التطبيقِ العمليّ لتلكَ المبادئِ؛ فقد وَرِثْنا عن نبيِّنا محمدٍ _عليه الصلاة والسلام_ واقعةً عمليةً جسّدتْ لنا الصلحَ الاجتماعيَّ في أبهَى صورةٍ؛ وهي عندما وقعتْ حادثةُ الإفكِ على “عائشةَ” _رضيَ الله تعالى عنها_؛ فقامَ رسولُ اللهِ _صلى اللهُ عليه وسلّم_ فاستعذر من عبد الله بن أُبَي بن سَلول، فقال الرسولُ _صلى الله عليه وسلم_ وهو على المنبرِ “يا معشرَ المسلمينَ من يَعذِرُني من رجلٍ قد بلغَني أذاهُ في أهلِ بيتي؛ فواللهِ ما علِمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيراً، وما كان يَدخُلُ على أهلي إلا معي. فقامَ سعدُ بن معاذ الأنصاري _رضي الله عنه_ فقال: أنا أعذِرُكَ منه يا رسولَ اللهِ؛ إنْ كان من الأَوسِ ضربْنا عُنقَه؛ وإنْ كان من إخوانِنا من الخزرجِ أمرْتَنا ففَعلْنا أمرَكَ، فقامَ سعدُ بن عبادة _رضي الله عنه_ وهو سيدُ الخزرجِ_ وكان رجلاً صالحاً؛ ولكنْ احتَملَتْهُ الحَميَّةُ_ فقال لسَعد بنِ معاذ: لَعَمْرُ اللهِ لا تَقتلُه ولا تَقدِرُ على قتلِه، فقام أُسيد بن حضير؛ وهو ابنُ عمِّ سعدِ بن معاذ، فقالَ لسَعد بن عبادة: كذبتَ لعَمْرُ اللهِ لنَقتُلنَّه.. فإنك منافقٌ تُجادلُ عن المنافقينَ، قالت: فثارَ الأوسُ والخزرجُ حتى هَمُّوا أنْ يَقتتِلوا؛ ورسولُ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_ قائمٌ على المنبرِ؛ فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_ يَخفِضُهم حتى سكَتوا وسكتَ.

لقد دلّتْ هذه الواقعةُ دلالةً واضحةً كيف قدّمَ رسولُ اللهِ_ صلى الله عليه وسلم_ الصلحَ الاجتماعيَّ على عِرضِه الشريفِ؛ فقدّمَ المصلحةَ العامةَ على المصلحةِ الخاصةِ، وأعطَى الصلحَ الاجتماعيّ أولَوِيّةً؛ لأنه عليه الصلاةُ والسلامُ لو لم يُراعِ الأمنَ المجتمعيَّ؛ لوقعَ الاقتتالُ بينَ الأوسِ والخزرجِ؛ والتَهمتْ الفِتنةُ الأخضرَ واليابسَ؛ لكنه التوجيهُ النبويُّ الذي يُعَدُّ تطبيقاً عملياً للصلحِ الاجتماعي.

ولقد جاءَ حُكم تحريمِ الزّنا؛ ليُحقّقَ الصلحَ الاجتماعي؛ لأنّ نقيضَ ذلكَ الحُكمِ يَقطعُ الأرحامَ والعلاقاتِ بينَ الناسِ، ويُحدِثُ العداوةَ والبغضاءَ واختلاطَ الأنسابِ، ويدمّرُ المجتمعَ؛ لذلك نرى في زمانِنا أحوالَ الدولِ الغربيةِ الأكثرِ تقدُّما وتطوّراً في الاقتصادِ والسياسةِ؛ وغيرِها من الأمورِ الحياتيةِ؛ نرى مجتمعاتِها يسودُها التفكُّكُ الاجتماعيّ، وانتشارُ الرذيلةِ، والخداعُ والتضليلُ والعلاقاتُ القائمةُ على الماديةِ البَحتةِ؛ فتزيدُ عندَهم حالاتُ الانتحارِ والشذوذِ والبهيميةِ في التصرفاتِ والسلوكِ؛ كلُّ ذلكَ لغيابِ الصلحِ الاجتماعيّ، وغيابِ مفاهيمِ التشريعِ الإسلاميّ الأخلاقيةِ والإنسانيةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ الحقيقيةِ.

كما ويُعدُّ الصلحُ الاجتماعيّ بُنياناً عظيماً؛ يكتملُ باكتمالِ لَبِناتِه؛ ليَظهرَ للناسِ في أحسنِ صورةٍ؛ فيَنتفِعُ به الصديقُ، ويقتنعُ به العدوُّ، وأمّا التناحرُ، والتدابرُ، والتقاطعُ، والتحاسدُ، والتباغضُ؛ يأتي على المجتمعِ المسلمِ بالضياعِ، ويصوّرُ المسلمينَ في أدنَى صورةٍ للمجتمعاتِ الأخرى؛ فلا نَنتَفِعُ ولا ينتفعُ غيرُنا؛ ونُعَدُّ في هذه الحالةِ مُضيِّعينَ للأمانةِ التي أُمِرْنا بأدائها على الوجهِ الأكملِ.. أسألُه _تعالى_ أنْ يهيِّئَ لنا من أمرِنا رَشَداً في دُنيانا وآخِرتِنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى