دين ودنيا

قبل البداية …

كتب : د . وائل الزرد داعية إسلامي

أقبل شهر رمضان المبارك لتُغفر فيه السيئات، وتُرفع فيه الدرجات، وتُكفر فيه الذنوب والخطيئات، فتُفتح أبوابُ الجنان وتُغلق أبواب النيران وتُصفد مردة الشياطين، وما على المؤمن التقي إلا أن يشمَّر عن ساعدِ الجِد والاجتهادِ في طاعة الله فما رمضان إلا ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ وسرعان ما ينقضي ويرحل إلى -ربما- غير رجعة، فأَرُوا اللهَ من أنفسكم خيرًا، فإذا قاربَ هلالُ شهرِ شعبانَ بالأُفُول فاستقبل هلالَ رمضان بقولك [اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ] واعزِم على صيامِه وقيامِه إيمانًا واحتسابًا، ففي الجنَّة بابٌ مَن دخلَه فازَ وربِّ الكعبة، هو بابُ الريان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم “يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ” رواه النسائي حديث رقم: 2236.

اعلموا أيها المؤمنون أنَّ الله تعالى ما شرع رمضان للجوعِ والعطشِ والسهرِ والتعبِ، وإنما شرعه لِنُحَصِّلَ التقوى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فنرضى بالقليلِ ونخشى من الجليلِ ونستعد ليوم الرحيل، وكذلك شرع اللهُ الصيامَ والقيامَ لتهذيبِ الأخلاق وضبطِ النفوس ومسكِ اللسان عن الحرام “إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ” رواه البخاري حديث رقم: 1671، فلا صيامَ ولا قيامَ لمن قارفت يداهُ الآثامَ، ولا صيامَ ولا قيامَ لمن انشغلَ بالذنوبِ ليلَ نهار، ولا صيامَ ولا قيامَ لمن عقَّ والديهِ أو قطع رحمَهُ أو أساءَ جوارَه، أو كَذبَ إن تحدثَ أو أخلفَ إن وعدَ أو خانَ إن أؤتُمنَ أو غدرَ إن عاهدَ أو فجرَ إن خاصمَ ،،، ليس لهؤلاءِ جميعاً شيءٌ من ثواب “رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ” رواه ابن ماجه حديث رقم: 1680.

وإنَّ مِنْ نِعَمِ الله علينا أنه -سبحانه وتعالى- أسكننا هذه الأرضَ المباركةَ، أرض الجهاد والاستشهاد، الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وهاجر إليها الكثيرُ من المرسلين وصلى بها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بجميع النبيين، هي أرضُ الطائفة المنصورة والفرقة الناجية والكتائب المؤمنة المظفرة، التي لا تُقَدِّمُ على الجهادِ طاعةً ولا تعدلُ بالرباط ِعبادةً ولا تساوي بالقتال في سبيل الله عملاً صالحًا، لأنهم يعتقدون أنْ “ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” ولا زالت كلمات العالم المجاهد عبد الله بن المبارك ترسل عبر السنوات الطويلة لكل من رضي بغير الجهاد والرباط، تقول له مُعاتِبَةً: يَا عَابِدَ الحَرَمَينِ لَو أبَصرتَنا لعَلِمتَ أنَّكَ بالعبادةِ تلعبُ.

فاغتنموا أيها المؤمنون شهر رمضان المبارك بكل خيرٍ، واستقبلوه بإعلانِ الصلح مع الله والصلح مع الناس، فاحرصوا على الصلاة جماعةً حيث ينادى بها، وتصدقوا إن بلغت أموالُكم النصاب وحال عليها الحول، مُرُوا بالمعروفِ وانْهَوا عن المنكرِ وادْعُوا الناسَ إلى الخير، وتعلَّموا العلمَ النافعَ، وصاحبوا العلماءَ ولازِمُوا أهلَ التُقَى والصلاح، وصِلوا الأرحامَ وبروا الآباءَ والأمهات، واعتنوا بالأولادِ والبنات، وأحسنوا إلى جيرانِكم واحفظوا أعراضَكم ،،، تدخلوا جَنَةَ ربكُم بِسَلامٍ .

هذا الشهر الكريم لا يبدأ حتى ينتهي ولا يجيء اليوم الأول حتى يُختَمَ باليوم الأخير، تُسْحَبُ أيامُهُ سحبًا وتجري ساعاتُه جريًا كأنما هناك من يلاحقها، يخلفُ كلَّ هذا حسرةٌ لكل الكسالى والبطالين الذين أمضوا ليلَ رمضانَ سهراً ونهارَ رمضانَ نومًا، فأضاعُوا بذلك أعمارَهم، وأحدُهم مسئُولٌ “عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ” ومن خيرِ ما يملأُ الواحدُ منَّا نهارَه وليلَه في شهرِ رمضانَ المبارك: القرآن الكريم قراءةً وفهمًا وتدبرًا وعملًا، فهو الشهر ﴿الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ .

وشهر رمضان المبارك لا كما يظنُّ بعضُ الناس أنه مليء بالتعقيدات الفقهية والتعسيرات الشرعية، بل إنَّ شهر رمضان يسير وسهل ولا حرج في كل أحكامه، وفي منتصف آيات الصيام قال الله ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ولكنَّ العسرَ لا يُنْفَى إلا بالعلم ، كما أن اليُسرَ لا يبقى مع الجهل، ويقبح بشبابِ الأمة أن تمُر عليهم الأيامُ ولا زالوا إلى الآن لا يعرفون أحكام الصيام التي شرعها الله تعالى لعباده، ويَقْبُحُ بالمسلم أيضًا أن تبقى أسئلةُ رمضان عنده تدورُ على نفس الأسئلة الموسمية الرمضانية المفطرات وغير المفطرات!

فمتى سيتجاوز شبابُ الأمة هذه المرحلة من قلة العلم، وينطلقوا ليفكروا في قضايا الأمة الكبيرة، فقد كان شهرُ رمضان أيامَ سلفنا الصالح شهرًا للفتوحات والانتصارات، وللعمل والجد والاجتهاد والمثابرة والعطاء، وما دخل المسلمون في شهر رمضان معركةً إلا وانتصروا فيها عبر التاريخ الإسلامي الطويل، وهذه المعارك تشهد بصدق ما نقول : غزوة بدر الكبرى، فتح مكة المكرمة، معركة البويب، فتح النوبة وفتح جزيرة رودس، غزوة طريف، وفتح الأندلس وفتح عمورية وفتح الكرم وصفد، ووقعة عين جالوت، وفتح أنطاكية وأرمينيا الصغرى ومعركة شقحب وفتح جزيرة قبرص، وفتح البوسنة والهرسك، وغير هذا الكثير.

وختـــــامًا:
اثبُت يا رعاك الله بعدَ رمضان، فقد فَرِحت القلوبُ بالطاعاتِ، وامتلاء المساجدِ واكتظاظ المصلين، وكثرة ختمات القرآن وإنفاق الصدقات، والخروج للعمرة وصلة الرحم، وحسن الضيافة واللقاء، والصيام والقيام والاعتكاف والخشوع والدعاء، ولكن -للأسف والحسرة- يأبى بعضُ الناس إلا أن يجعلَ هذا الأمل مشوبًا بالألم، فما ينقضي شهرُ رمضان حتى ترى قلةً في المصلين وندرةً في المعتكفين، وشحًا في المنفقين، وكأن موسم الخير انقضى، وانكشف الرَّبَّاني مِنَ الرَّمَضَانِي؛ الذي انقلب بعد رمضان على وجهه قد خسرَ الكثيرَ من الخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ألا يَا عبادَ الله فاثبُتوا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى