مجتمع وناس

يوم أكلنا المانجا

بقلم/ أيمن تيسير دلول

سبعة عشر عامًا مضت لكن طعمها لا يزالُ في فمي حتى الآن، فمذاقها كان مختلفًا اختلافًا كبيرًا عن أي مذاق لذيذ قدر الله تعالى أن أتذوقه، ففي مذاقها طعم الانتصار ونكهة الحرية ومعالم القوة والعزة والكرامة.

المانجا التي تناولتها بعد صلاة الفجر على أرض محررة نتساريم في العام 2005 لم أجد شبها بما تناولته من فاكهة بعدها رغم حلو مذاقها.

كنتُ جديد عهد بالعمل الإعلامي وطلبت مني إدارة المؤسسة التي أعمل بها تغطية الاندحار الإسرائيلي من قطاع غزة، وفي ذلك الحين كان من نصيبي التغطية لاندحار المحتل عن محررةٍ تتواجد بجوار كرم زيتون كان لوالدي بجوارها فتحوَّل على مدار سنوات إلى مقر لدبابات المحتل التي كانت توفر الدعم والاسناد للمستوطنة.

وبمجرد مغيب الشمس توجهتُ إلى مكان قريب من المستوطنة محاولًا الوصول كأول من يصل إليها، لكن المعالم في المكان تغيرت، والشوارع تبدلت، وقبة المسجد المجاور تهشمت وتحطمت، إلى أن وصلنا وقد شارف مؤذن الفجر لأن يصدح بـ “الله أكبر”.

سجود الشكر لله تعالى كان الفعل الأول لمئات المواطنين الذين وصلوا أولًا، وكانت الدموع حاضرةً على وجوه كل الحاضرين إلا من أبى تذوق معنى الحرية والانعتاق من المحتل حتى بعد رحيله.

أذن المؤذن فصلينا جماعةً ثم انطلقنا نتحسس معالم المحررة التي بذل لأجل الوصول لتطهيرها أبناء شعبنا البطل الشهداء والجرحى والآلام والتضحيات، وذهبت الحقول، وتدمرت الممتلكات، وتقطعت أوصال قطاع غزة، وبينما كنتُ أتنقلُ في نواحي المحررة صادفني زميلٌ لي بين حقول المانجا فتبادلنا الأحضان فيما بيننا تهنئة بالانتصار العظيم الذي حققه شعبنا العظيم ومقاومته البطلة وأدركنا أن فصل الاحتلال لوسط قطاع غزة عن مدينة غزة من خلال مستوطنة نتساريم قد انتهى في ذلك اليوم وإلى الأبد.

تناولنا حبات من المانجا في تلك اللحظة، وكان لمذاقها بحق طعمًا مختلفاً، ومضينا نتذكر كل من كان سببًا في رحيل هذا المحتل عن جزء عزيز من بلادنا، ففي ذاكرتنا شباب من خيرة أبناء فلسطين لم يمضِ أسبوعًا إلا واشتبكوا مع المحتلين الغاصبين على حدود أو داخل المستوطنة ومستوطنات القطاع، ومنهم من كان يترصدُ لدوريات المحتل على طريق ما كان يُعرف (كارني – نتساريم) فيستهدف آلياتهم باستمرار، ومنهم من جعل من جسده قنبلة يغيب بها اللحم والعظم لكنها تُبقي القهر والحسرة في قلوب المحتلين الغاصبين.

بل إن منهم من انتقل لتجربة استخدام الصواريخ والمقذوفات ليزيد من ألم المحتل وقادته الذين وقف زعيمهم الذي كانت ترتعب فرائس الدنيا بأكملها حينما يُعلن عن عقد مؤتمر صحفي له، كانوا يرتجفون ويطلبون عدم استفزازه كي لا ينتقم!. ومن لا يعرف بحق رئيس وزراء المحتل الإسرائيلي “آرائيل شارون” الذي عرَّفه البعض بأنه “بلدوزر” من وحشيته وإرهابه، وقف ذاتَ يوم وقال متفاخرًا:” نتساريم مثل تل أبيب”. تذكرنا مقولته تلك ونحنُ نتلمسُ تراب “نتساريم” وندوس عليه بأقدامنا وكان اليقين بأن أقدامنا التي تجوَّلت في “نتساريم” ستدوسُ شوارع “تل أبيب” بإذن الله تعالى.

كان هروب المحتل من غزة انقلابًا في النظريات الراسخة داخل عقول الكثيرين بأن “الجندي الإسرائيلي لا يُقهر”، لكن جاء هذا الرحيل والاندحار للمحتلين ليرسم مشهداً جديدًا مفاده أن ما كان في الماضي ولَّى دون رجعة، وما دام أهل الحق متمسكون بحقهم فحتما سيكون النصر حليفهم لكن المسألة تحتاج إلى إرادة وعزيمة وتضحيات، وبمقارنة ضريبة مقاومة الاحتلال أو السكوت على جرائمه فضريبة المقاومة أقلُ كثيرًا من استحقاق ذل الرضوخ والهوان.

أكلنا المانجا في “نتساريم” ونحن بانتظار أن نجني برتقال يافا، ونأكل أسماك حيفا، ونجلسُ على أسوار عكا، ونصلي في القدس، ونستظل تحت داليةٍ في الخليل، ونتسامر فوق جبال نابلس، ونلهو في أحراش يعبُد “جنين”. ليست أحلامًا بعيدة المنال، لكنها مخططات نسعى لتنفيذها عما قريبٍ بإذن الله تعالى مع جيلٍ لا يؤمن بفلسطين إلا أنها وطنٌ لأهلها فقط وما دون ذلك هوامش على قارعة الراحلين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى